لقد استشعرنا-فعلًا - في خضم هذه الأحداث والمتغيرات التي تعصف بمجتمعنا المسلم أهمية هذا الدعاء القرآني العظيم (ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا...) وشدة حاجتنا إليه..
وحين أحاطت بنا مضلات الفتن من كل جهة،ورأيناها تتخطف الناس من حولنا أدركنا-تماما-لماذا كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أم سلمة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول: "اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك "، قالت: فقلت يا رسول الله أو إنّ القلوب لتقلب؟ قال: "نعم،ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، عز وجل، فإن شاء أقامه،وإن شاء أزاغه.فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب ".قالت: قلت: يارسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: " بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد،اغفر لي ذنبي،وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني " اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما أحييتنا
وفهمنا – أيضًا - حكمة بن مسعود رضي الله عنه حين قال فيما أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله "من كان مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لاتؤمن عليه الفتنة " عندما تزعزعت ثوابت على أيدي من كان يؤمل أن يزيدها رسوخًا، وزلّت أقدام متأثرة بفتنة السراء طالما كانت صامدة في فتنة الضراء،وشاهدنا قاماتٌ كانت عزيزة بالثبات تسقط في أوحالٍ -أمضت دهرًا -تحذر من السقوط فيها،وتغيرت أفكارٌ كانت تبدد شبهات المبطلين،فأصبحت تصافي من كانت تعاديه في الدين،وغدت متأثرة بهم حين عجزت عن التأثير عليهم،وتخلى البعض عن مباديء كانوا ينافحون عنها-زمنًا -ويفدونها بأرواحهم،وزاغت قلوب عن الحق الأبلج وألتبس عليها بالباطل اللجلج،واتبعوا المتشابه (من آيات الكتاب أو صحيح السنة– فضلا عن ضعيفها-) بوضعها في غير مواضعها،وفهمها بمعزل عن المحكم،كما فعل أهل الأهواء والبدع من قبل الذين احتجوا على باطلهم بنصوص من الوحي الصادق فقال فيهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه (كلمة حق أريد بها باطل) رواه مسلم
فهم إما جهله بالنص المحكم فيكون رأيهم قولا على الله بغير علم، أو أنه سكوتا عن الدليل مع علمهم به فيكون كتمًا للعلم، أو تقديما للنص المتشابه على المحكم فيكون سلوكًا لمسلك أهل الزيغ، قال بن تيمية رحمه الله(من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمي قلبه عن الحق الواضح كما قال تعالى: ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ).انتهى
فهم يحتجون بأحداث ومواقف لها ملابسات خاصة:إما أن تكون منسوخة أو مقيدة،أو أحكام متعلقة بأفراد لاتتعدى لغيرهم، فيعتبرونها دليلا على مااستقر في أنفسهم من رأي فضلوا وأضلوا، وتلقف أقوالهم خصوم الشريعة، وطار بكلامهم أعداء الفضيلة، فتجرأوا على الثوابت،وتعدوا على الحرمات
تشكو الفضيلة من بغيٍ وقد ثكلتْ ****شهامةً واستغاث الصدقُ بالكذبِ
تخشى سفائننا الحيرى ربابنةً ****** زاغوا بها بين ديجور ومنقلب
الثائرون ولكن في مخابئهم ***** والذائدون ولكن عن سنا الرُّتبِ
وماذاك الزيغ بظلم من الله لهم،بل هو من عند أنفسهم،قال بعض العلماء: من تكلف رد النصوص بالهوى والرأي فإن الله يطمس بصيرته فيكون زائغ القلب،كما قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) قال بن سعدي:{فَلَمَّا زَاغُوا}أي:انصرفوا عن الحق بقصدهم {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها باتباعهم المتشابه وخلودهم إلى الأرض،فصاروا فتنة للذين كفروا ومطية لكل أفاك أثيم، بل كل الخشية أن يصبحوا سهاما في خاصرة الإسلام كما حصل لفئامٍ من الذين (ضل سعيهم ي الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)
فمن أميز علاماتهم، وأوضح صفاتهم: "ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا جهالهم "كما قال مجاهد رحمة الله. وعن عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (هو الذي أنزل عليك الكتاب...فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة) فقال: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، أولئك الذين سمى الله فاحذروهم " أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح
فإذا رأيتم الذين يلوون أعناق الأدلة ويسيئون فهمها،ويستدلون بما يحتمل أوجه، أو بما ليس فيه دلالة،ويتبعون المتشابه المحتمل ويتركون المحكم الواضح،ويتخيرون من روايات الحديث وتفسير الآيات مايدعمون به أقوالهم،ويتلاعبون بالألفاظ ويعبثون بالآثار للخداع والتلبيس...فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
وإذا رأيتم المعجبين بآرائهم،المغترين بذواتهم،المخالفين ماعليه سلف الأمة،الذين لايرجعون للعلماء الراسخين فيما يذهبون إليه...فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
وإذا رأيتم الذين يشرئبون للظهور،وتنافسون للبروز، مبتدعين أقولا لم يسبقوا إليها، مغيرين للحقائق، مناقضين بآخر أقوالهم للسابق، يأمرون بما كانوا ينهون عنه، ممتطين صهوة التجديد،أو راكبين موجة المصلحة...فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
وإذا رأيتم الذين يحتجون بفعل أجدادهم وماعتادوه في بلدانهم،أو يعتدون بأفكارهم وآرائهم ويعارضون بها النصوص، ويتقلبون في أحضان الهوى،وينقبون عن مواطن الزلل..فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
وإذا رأيتم الذين يلقون بالتهم على من العلماء،ويتصيدون الأخطاء،ويستعدون عليهم،ويتربصون بهم الدوائر(عليهم دائرة السوء)...فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم
واستمسكوا-رحمكم الله بوصية حذيفة رضي الله عنه حين دخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال له أعهد إلي فقال له ألم يأتك اليقين؟! قال بلى وعزة ربي،قال(فاعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكره وأن تنكر ما كنت تعرفه وإياك والتلون فإن دين الله واحد)} سنن البيهقي الكبرى
ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم ردّ ضال المسلمين إليك ردًا جميلًا.
الكاتب: الشيخ: حميدان الجهني
المصدر: موقع صيد الفوائد